مختبر سيرن ومصادم هادرون الجديد لتحطيم الذرات له ما يبرره من الناحية الفكرية.
السعي لفهم أسرار الكون على وشك أن ينتقل إلى مستوى جديد فبعد تأخير طويل، أصبح مصادم هادرون الضخم، وهو الجهاز الأوروبي لتحطيم الذرات الذي تبلغ قيمته ثمانية مليارات دولار، جاهزاً لإعادة إنتاج الطاقات الهائلة للانفجار العظيم الذي نتج عنه الكون قبل 14 مليار عام. عملت سلسلة ناجحة من التجارب التي تم إجراؤها قبل عيد الميلاد، على زيادة توقعات العلماء في أن يتمكن مصادم هادرون الضخم من كشف مزيد من أبعاد المكان والزمان، وأن يفسر الكتلة والجاذبية، وأن يفسر «المادة السوداء» المحيرة المنتشرة في الكون، وحتى أن يوجد ثقوباً مجهرية سوداء.
مصادم هادرون الضخم وسيرن، وهو مختبره الأم خارج مدينة جنيف، يلخصان المدخل العلمي الكبير للفيزياء. فعبر نصف القرن الماضي، توصل العلماء إلى فهم متناغم ولو أنه غير تام للكون، عن طريق تحطيم أصغر اللبنات التي تتكون منها المادة في سلسلة من الأجهزة التي تزداد ضخامة وقوة وتكلفة.
في الماضي كان العلماء يعتمدون على الحكومات لتمويل عملية بناء مسارع أكبر وأفضل للجزيئات، كلما كان المسارع الحالي يصل إلى نهاية حياته. ورغم أن ثقتهم تعرضت لضربة إثر إلغاء المصادم الأمريكي الفائق القوة في عام 1993، تدخلت أوروبا لسد هذا الفراغ عبر موافقتها على بناء مصادم هادرون الضخم (بإسهام كبير من الولايات المتحدة).
ولكن هناك الآن شعور متنام في أن مصادم هادرون الضخم قد يكون الأخير في سلسلة المصادمات القوية. في هذه المرحلة، وبتشغيل جهاز واحد، عادة ما يكون العلماء والوكالات العالمية، التي تقدم لهم التمويل اللازم في مرحلة متقدمة من التخطيط لبناء المصادم، الذي سيخلف المصادم الحالي بسبب الوقت الطويل الذي تأخذه عملية التصميم والبناء.
وفي حين قام فريق دولي بتقديم رسم مبدئي لتصميم مصادم طولي لعقد العشرينيات من هذا القرن، فإن الحكومات تحجم عن تقديم أية التزامات في هذا الخصوص للمستقبل المنظور.
المشكلة السياسية الخاصة بالفيزياء الجزيئية هي مشكلة مزدوجة فأولاً، يتحول التمويل العام ببطء ولكن بثبات من العلوم الفيزيائية إلى علوم الطب الحيوي. وثانياً، أخذت الأموال تتحول من الأبحاث التي يقصد بها تطوير المعرفة من أجل المعرفة إلى الأعمال التطبيقية، التي لها أهداف عملية واضحة.
وأكبر مثال على ذلك في مجال الفيزياء هو مشروع Iter الذي تبلغ تكلفته عشرة مليارات دولار، والذي يهدف إلى تطوير الالتحام النووي كمصدر للطاقة.
وفي بعض الأحيان يرد أنصار الفيزياء النظرية بالدفاع عن الإنفاق على مختبر سيرن ومصادم هادرون الضخم من حيث التفرعات العملية في المدى القصير، كأنظمة الكومبيوتر القادرة على معالجة كميات هائلة من البيانات (يتم تذكيرنا على الدوام بأن الإنترنت التي عمت العالم جرى اختراعها في مختبر سيرن).
وهذا هو المدخل الخاطئ. إن السبب في إنفاق مليارات الدولارات على مصادم هادرون الضخم هو فوق كل ذلك سبب فكري – أو ثقافي. في هذه المرحلة من تطور الحضارة الإنسانية، فإننا محقون في تخصيص جزء يسير من موارد العالم المالية، لمحاولة الإجابة على بعض الأسئلة الكبيرة عن أصل الكون وآليات عمله ومستقبله.
علماء الفيزياء الجزيئية يواجهون مهمة صعبة في عرض قضيتهم الفكرية والثقافية على الجمهور. إن تفسير كيف يمكن لمصادم هادرون الضخم أن يولد Higgs bosons – وهي الجزيئات الافتراضية التي تعطي المادة كتلتها – والأسباب التي تدعونا إلى الاهتمام بهذه الأسئلة، أصعب كثيراً من الحديث عن فوائد البحث في علوم الأحياء أو الفلك.
علماء الفيزياء أصبحوا أفضل في عرض قضيتهم ولكن ينبغي عليهم أن يضاعفوا جهودهم، لأن القرارات الخاصة بتمويل الأبحاث تعتمد بشكل متزايد على الفهم العام وعلى الدعم السياسي.
بالنسبة لعالم الفيزياء، فإن أفضل نتيجة يمكن الحصول عليها من مصادم هادرون الضخم، هي مفاجأة علمية مذهلة تكشف عن مستوى وفير لم يكن مشكوكاً فيه في السابق للنظام الكوني، وذلك بأسلوب يخلو من التعقيد العصي على الفهم من قبل الأشخاص غير المختصين. وينبغي أن تثير هذه النتيجة أسئلة جديدة تداعب أفكارنا، ولا يمكن الإجابة عنها إلا عبر بناء مصادم آخر، وحتى أقوى من المصادم الحالي